قتلتم فيها الأمل ... فأي وطن هذا يا صاحب السعادة



قتلتم فيها الأمل ... فأي وطن هذا يا صاحب السعادة
 ذ:علال المديني

فاطمة امرأة هادئة وصبورة تحب الحياة تتفاءل بالغد القريب ،لا تشكو ولا تمل أم لابنتين الأولى تدرس بالجامعة وهي أملها في التخفيف من معاناتها وتعويضها ولو معنويا مكائد الدهر وصعوبة الحياة وتجاهل الوطن والثانية في سنها التاسع تتلألؤ جمالا وأملا في غد أفضل ، تزينها براءة الأطفال وابتسامات الملائكة ....

فاطمة تبتسم لا تصنعا و إنما بفطرتها بعشقها للحياة وإن كانت الحياة رسمت مخالبها في وجهها وطبعت عليه شحوبا وكدمات لتعطيها هويتها الاجتماعية في هذا الوطن وتركنها في وسط الجموع من أبناء الفقراء والمحرومين....

في هذا الوحل من الظلم و تنكر الوطن لأبنائه كانت فاطمة تتبع شعاعا رقيقا من الأمل في ابنتها الطالبة ،فكانت تنتقل من مكان إلى مكان ومن أسرة إلى أسرة ومن مهنة إلى أخرى لتوفر ضروريات الحياة وملابس الأبناء وكتب الدراسة ولقمة عيش مرة ومرة لها ولبنتيها وثمن الكهرباء والماء،كانت تدب في الأرض وتكد من أجل لقمة العيش وهي الحالمة بمستقبل أفضل لها تعيش فيه بأمن وسلام وقد اطمأنت لابنتيها ،ولم تكن تهتم يوما بالسياسة والساسة وأقوالهم ،دائما تردد الله ،الوطن ،الملك ،وترفض أي مس بهذه المقدسات وترى في الملك الأمل وفي الشعارات أحلام تتحقق على أرض الواقع رغم كيد الخصوم والأعداء ،فمنا الدعاء والولاء ومنه الحكم والعدل ....

فاطمة تصفعها الحياة مرة أخرى بعد صفعة الفقر ونكران الوطن لها ،صفعتها اليوم كانت في شعاع أملها في ابنتها الطالبة التي أصيبت في رأسها بعد أن سقطت أرضا وتمزق عرق في رأسها مما أثر على حركاتها وتوازنها ومنعها من الدراسة ،فقصدت الأم المركز ألاستشفائي للحسن الثاني بفاس لإجراء الفحوصات اللازمة لابنتها ،وهنا بدأت المعانات وبدأت المصاعب وبدأ الحنق وفقدان الأمل وبدأت الدموع تسكن عيون الأم التي عجزت عن الحل،فبعد الزيارات المتكررة للمستشفى تمكنت الأم أخيرا من مقابلة الطبيب أو السراب الذي يحسبه الضمآن ماءً والذي طلب منها إجراء تحاليل خارج المستشفى أي في الخاص أي بصريح العبارة بمقابل تموت فيه فاطمة أو تتسوله من أهل الخير من أجل إنقاذ طالبة للعلم في وطن عجز اللسان عن وصفه ،فكرت فقدرت فبكت فعملت وأجهدت وحصلت على المال وذهبت بابنتها فأجرت التحاليل فتنفست الصعداء وتبسمت في وجه ابنتها أن الصبح انبلج والفرج أتي والشفاء قادم .....،فعادت إلى بيتها وهي تحلم من جديد وتتأمل في ابنتها المسكينة وتحمد ربها على نعمة المال والجهد والطبيب وأهل الخير ....

قامت باكرا وأجلت كل المواعيد والزيارات وأيقظت ابنتها وقصدت المستشفى مسرعة داعية ربها أن يسمعها خيرا في ابنتها وأن يكون الطبيب حاضرا في عمله ومعه ضميره ومبادئه وقسم أبوقراط ووطنيته ليعجل بشفاء هذا الأمل ،فوصلت سيارة الأجرة إلى باب المستشفى ولم يصل بعد عقل فاطمة الحالم في فضاء هذا الوطن ،فنبهتها ابنتها للنزول ،وهي تخطو نحو المركز وحركاتها تتشابك و أفكارها تتزاحم ودقات قلبها ترتفع لكنها صامدة قوية مبتسم ومتفائلة ،فدخلت إلى غابة فيها من الفوضى والضجيج والبؤس ما لا يوجد في غابة الوحوش ،دخلت وهي تقصد الطبيب ولكن أين هو الطبيب فكل الأبواب موصدة في وجه الفقير وإن كانت مشرعة مفتوحة ،بدأت تسأل ولا مجيب فقصدت جناح التخصص فرفض قبولها وقيل لها أن موعدها في الشهر السابع فتعجبت واستغربت واستنكرت وتذمرت ،كيف يطلب منها التحليل ولا يسمح لها حتى بمعرفة نتائجها،طالبت وتوسلت واستنجدت وأدمعت من أجل لقاء الطبيب فكان الرفض فأعادت الكرة والكرة ولم تعد تريد أي شيء سوى أن يقرأ الطبيب التحاليل فكان الرفض والتنكر والصد،فيئست من ضمير المستشفى ولم تيأس من معرفة نتائج التحاليل فقصدت أهل الخير والإحسان فتوسطوا لها عند طبيبين يعملان في القطاع الخاص ففسرا النتائج وأخبرت بالفاجعة أن ابنتها مصابة بتمزق عرق في رأسها وتحتاج إلى عملية عاجلة لتلافي الأضرار والشلل،...فنزل الخبر كالصاعقة و أطبقت السماء على الأرض وحبست أنفاسها حتى كادت تختنق وانغمرت الدموع من عينها حتى كادت تصير دماءً،وتحول ضوء النهار إلى ظلمة حالكة فلم يعد من الوطن سوى حفرة قبر تريحها من هذا الكابوس المرعب ،فليس في هذا الوطن إلا الله تشكو إليه أما شعارات العدالة الاجتماعية وملك الفقراء والتغطية الصحية ورميد ومغرب اليوم في خدمة أبنائه سوى شعارات تغطي فضائحنا وتزين جرائمنا،كما يبرر اللص لصوصيته والقاتل جرمه..

عادت الكرة وطرقت كل الأبواب ،بكت واستنجدت واحتجت ووقفت ساعات طوال لمرات عدة في باب المستشفى لكن دون جدوى ودون فائدة فكل الأبواب موصدة ،وابنتها تتألم في صمت وتخفي ألمها ودموعها على الأم المكلومة ،تنتظر القدر لكنه قدر صنعته أيادي آثمة وقلوب أشد قسوة من الحجارة وليس لها فيه يد والله بريئ منه ....

فاطمة تشكو من هذا الوطن ،فاطمة تموت في اليوم ألف مرة ،فاطمة التي لم تكن تطمع في هذا الوطن يوما ،فاطمة التي كان أملها في ابنتها وطموحها صغير ،الآن هذا الوطن ومن يستغل خيراته يقتل لها هذا الطموح ،يحطم لها هذا الأمل، يجعلها ثائرة غاضبة حزينة ناقمة دامعة ...قتلتم فيها الأمل...



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق

مرحبا بكم في الزيتونة

سجل إعجابك ليصلك الجديد

.

الصور للإشهار