حول مفهوم الإصلاح



-حول مفهوم الإصلاح:
*الأستاذ عبد الصمد بلكبير
1-1-
جميع المفاهيم والمصطلحات الإيديولوجية، تطرح مشكلات خلال النقاش بها أو حولها، ولعل مفهوم "الإصلاح" يعتبر أكثرها غموضا والتباسا في هذا الصدد، ذلك لأنه يستحيل تعريفه حسب موضوعه أو حسب زمنه أو حسب الداعي إليه.. خلاف كلمات مثل: الديمقراطية مثلا أو الاشتراكية... إن مفهوم "الإصلاح" نسبي جدا، ومتحول، بل ومتناقض، سواء في النظر أو عند الممارسة. وذلك حسب مصالح ومطالب دعاته في كل حين.
إن هذا هو ما يجعل تعريفه، يرتبط في الأذهان بنقيضه، الذي هو الفساد والإفساد، وهذا الأخير يفهم تلقائيا، باعتباره انحرافا عن أصل، قيمي وأخلاقي غالبا، غير أن جذوره الفلسفية تعتبر ذات طبيعة ميتافيزيقية، وذلك قبل أن ترثها عنها الإيديولوجيات الدينية اللاحقة عليها. نستطيع أن نلاحظ أكثر ذلك من خلال كتاب أرسطو "الكون والفساد" ما يعني لديه، أن للكون أصلا هو الحقيقة والفضيلة والجمال... وهو خلال الزمن وبفعله، يفسد، ويحتاج لذلك إلى "إصلاح" أي إلى عودة نحو "الأصل" الذي قع الابتعاد منه أو الانحراف عنه.
أطروحة الأصل أو المصدر هذه، يبدو أنها كانت دينية وثنية، قبل أن ينظر لها فلسفيا (=ميتافيزيقيا) ثم بعد ذلك ترتد على الدين نفسه بالتأويل إيجابا. وذلك خاصة بتحريره من التأويلات الإيديولوجية السلبية أو الرجعية.
وأتصور لذلك اليوم، إن ذلك "الأصل" المفترض، والذي يقع الانحراف (الفساد) عنه كل حين، ويحتاج من تم إلى "إصلاح"، هو بالضبط ما يصطلح عليه ب"الفطرة" أي كل ما به تمكن البشر (=الآدميون) من الانتقال الثوري العظيم، من الغابات إلى السفوح، ومن الهمجية إلى المدنية، ومن الفوضى إلى النظام ومن العنف إلى السلام ومن الغريزة إلى العقل أي من الحيوانية إلى الدين وإلى التدين....
تم ذلك في مجتمعات ما قبل الإيديولوجيا، بالتالي ما قبل الدولة والطبقات الاجتماعية... إذن ما قبل العنف الاجتماعي والمجتمعي، وشتى وسائله والتي من نوعه: الاستعباد والاضطهاد والقمع والحروب الكراهية والحقد الكذب...إلخ.
لقد استمرت البشرية-الآدمية ثم الإنسانية، وحتى اليوم، تحن إلى ذلك النمط من الاجتماع البشري الفطري، فحولت لذلك (أعادت إنتاج) ذاكرتها إلى خيال، وماضيها إلى مستقبل، وحنينها إلى أمل ورجاء، وتصورت (=توهمت) لذلك، أنه نمط تحقق خارج الأرض وخارج الزمان، مع أنه كان هنا، وفي حدود ما قبل عشرة آلاف عام في الأقصى، أي قبل تأسيس الطبقات والدولة في المشرق أولا.
جميع الأنبياء والرسل والأولياء والصلحاء والكثير من الفلاسفة (سقراط مثلا) والمتصوفة، اشتغلوا على هذا الرهان، ونجحوا في الاقتراب منه فرديا،
أو حتى في تحقيقه جزئيا، ولو لفترة قصيرة أو بين جماعة قليلة.
2-1-
مناط الاختلاف في جميع ذلك، لا يكمن في المبدأ والغاية، بل في السبل والطرق التي ينحوها الإصلاح لأجل تنزيله واقعيا وعلى الأرض.
أ- جميع دعاة الإصلاح وحملته، هم بشر لا ملائكة، ينتمون إلى مجتمعات غير متجانسة، فهم لذلك جزء من صراعاتها، غير أنهم يعبرون حكما، في دعواتهم الإصلاحية تلك، عن القسم المتضرر من نظامها، ولكن أيضا المؤهل لقيادة معركته (=الإصلاح).
ب-لا تأتي مرحلة الصدام عفوا أو دون مقدمات، إن الخطاب الإيديولوجي ملتبس دائما، غامض وغير مباشر، وأحيانا يبدو حتى متناقضا مع أهدافه، ذلك لأنه عندما تكشف الإيديولوجيا عن نفسها، فإنها لا تعود كذلك، وذلك لا يتم إلا عند استوائها اجتماعيا وسياسيا، ومن تم تنزيلها الميداني لـ"الإصلاح" إياه.
ت-ذلك يعني، أن وعي برامج الإصلاح، وتكريس عقيدته أو أطروحته، لا يتم بمعزل عن مقدمات تسبقه أو إجراءات ترافقه. وهذا بالضبط ما يتجلى في الآداب والفنون والعادات والسلوك والمبادرات الاجتماعية أو المجتمعية المختلفة.
ث-ثم هل من الضروري شرطا، وعي المصلح بهدفه، حتى يحتسب مصلحا، قد يكون ذلك هو الأفضل، غير أنه قد لا يحصل دائما، بل وقد يتم بعكس النوايا أحيانا، وإلا فهل تقصد الاحتلال والاستعمار إلى الإصلاح كهدف له. ومع ذلك فلقد تحقق منه الكثير على يديه وتحت إشرافه، وأحيانا قد يتم ذلك بنتائج أفضل من أولئك الذين تقصدوا إليه قصدا، وذلك كان منه بشتى الأشكال والصيغ، أخطرها كان غير مباشر. لقد كان المغاربة يعتبرون الاحتذاء الغربي وإطلاق شعر الرأس وشرب القهوة والشاي.. بل وعلاج بعض الأمراض بالأدوية العصرية... حراما (؟!)..إلخ.
والسيد المسيح عندما قدم لزيارة بيت المقدس، ولاحظ كيف كان الأحبار يتاجرون باسم الدين، في المال (الربا) والحمام، فقلب عليهم طاولاتهم صارخا "هذا بيت الله وليس بيت اللصوص" هل كان يتصور نفسه مؤسسا لدين جديد، بل وحتى إلاها، وليس وحسب مصلحا (؟!) صحابته والشرط التاريخي لاحقا... هما من قام بذلك، نيابة عنه ولكن باسمه.
ونفس الاستنتاج يمكن الخروج به عند لقاء الغزالي بنظام الملك (الصدر الأعظم) واستجابته لمطلب هذا الأخير في تأسيس ونشر المدارس "النظامية"، سبيلا وحيدا لإصلاح دين المجتمع، بعد أن وقع انحرافه، خاصة على أيدي الإسماعيلية. هو لم يكن يتغيى سابقا، أكثر من إصلاح القلوب والسلوك (الأفراد) لا المجتمعات والأنظمة... غير أنه فعل... وآثار إعادة صياغته للحقل الديني وإصلاحه ما تزال ماثلة ويعاد إنتاجها في كل حين واحتياج (في المغرب أخيرا).
ج-بعض هذا، هو ما قصدته عند القول بأن "الصهيونية" مثلت "نوعا" من الإصلاح لليهودية الموروثة أو الإيديولوجية أو المحرفة... وذلك سواء من قبل الأنظمة العبودية أولا، ثم الإقطاعية لاحقا. والحال أن (الصهيونية) هي منتوج النظام الرأسمالي الحديث، خاصة في مرحلته الاستعمارية.
تعليق: أكثر المشتغلين بالثقافة، والتي تسمح بها وتشجع عليها القراءة والكتابة، يميلون إلى تضخيم أهمية الأفكار والأطاريح المجردة في صناعة الأحداث والتاريخ، ولذلك فهم في التنوير مثلا أو في غيره. يؤكدون على دور الفلاسفة (ومنهم مندلسون) أكثر من الحركات الإصلاحية والتنويرية التي تحققت من خلال الآداب أو السياسة أو الممارسات الاجتماعية الملموسة، والتي هي في أغلبها ذات طبيعة شعبية لا نخبوية. وهذا بعض سر ذلك التهميش وحتى التحقير لما ينتبه إليه غالبا علماء الاجتماع والانثروبولوجيا والسياسة الأدب...إلخ.
لا يقتصر الأمر على حقل الأفكار، بل يعم أكثر، حقل الأشياء والاختراع التقني، فأغلبها كان من ابتكار ممارسيها في الإنتاج، بالتالي المصطلين بعواقب "انحرافها" المؤذي لأطرافهم، فيضطرون لذلك إلى "إصلاحها" وتطويرها... لا بهدف مضاعفة الإنتاج أو اقتصاد الزمن... بل فقط وأساسا، تلافي أخطارها وتهديداتها المحدقة بهم خلال عملية الإنتاج.
ومن حسن الصدف، أن ترك لنا التاريخ مخترعا عظيما لم يقتحم مدرسة قط. كان هو "أديسون"، وأمثاله ليسوا قلة.
بل ولنعد إلى التاريخ وإلى ما قبله، فمن كان مخترع العجلة، الفلاحة والزراعة والطحن والعجين والخبيز...إلخ وهي ثورات، وليست فقط إصلاحات، إنهم المنتجون المباشرون للعالم ولأنفسهم في نفس الوقت. لم يتخرجوا من مدرسة ولا جامعة، ومع ذلك صنعوا ماضيهم وحاضرنا حتى اليوم.
*مفكر, كاتب و باحث / أستاذ جامعي / برلماني سابق / مدير مجلة الملتقى / مدير دار نشر اتصالات سبو / رئيس منتدى ابن تاشفين المجتمع والمجال‏

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق

مرحبا بكم في الزيتونة

سجل إعجابك ليصلك الجديد

.

الصور للإشهار