أمهات القيم السياسية في القرآن والسنَّة

د. محمد بن المختار الشنقيطي*

هذا المقال هو باكورة سلسة مقالات شهرية خاصة بموقع مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، نتناول فيها القيم السياسية الكبرى في الإسلام، ونكشف عن مدلول تلك القيم في وضعها الشرعي، وما شابها من شوائب التاريخ، ومن سوء التأويل والتطبيق على مدى القرون. على أن نبدأ الحديث عن كل قيمة بتحرير معناها في الكتاب والسنة، ثم توصيف الضمور الذي عانت منه في فكر المسلمين وواقعهم. ولسنا نمنح آراء فقهاء السياسة الشرعية والآداب السلطانية سلطة فائضة في هذا المضمار، بل نرى أن الثقة المفرطة في الشرح تحجب عن المتن، وأن سلطة التراث السياسي إذا بولغ فيها تصبح حاجزا بين الناس وبين معاني القيم السياسية الإسلامية كما وردت غضة في الوحي. فالغاية هنا ليست تاريخ الأفكار، بل نفض الغبار عن القيم السياسية الإسلامية، وإرجاع النبض إليها في العقول والأفئدة، لتكون معالم هادية لحياة المسلمين السياسية.
ومن القيم التي ستناولها -بإذن الله- في هذه السلسلة: “القيام بالقسط” و”الشورى” و”المشاورة” و”الأمانة” و”القوة” و”النصح” و”الطاعة” و”النصرة” و”المدافعة” و”الإجماع” و”مال الله”.. كما سنتناول معايير الكفاءة السياسية في القرآن والسنة، ومناهج التغيير السياسي في الإسلاموغير ذلك من معان جليلة، جاء بها الإسلام لتنظيم الشأن العام، وضيَّعها المسلمون فضاعوا، بعد أن ضمُرت في حياتهم، وانحسرت دلالاتها، وانطرمت معانيها في ركام الجدالات الصورية والتكيفات الفقهية والخلافات اللفظية.
لقد أدرك عددٌ من علماء الإسلام ووُعاتِه المعاصرين، أن القيم السياسية الإسلامية لم يسمح لها السياق التاريخي الامبراطوري بالحياة والتفتق. ومن هؤلاء الفيلسوف الشاعر محمد إقبال الذي لاحظ أن القيم السياسية الإسلامية “بقيت أجنَّة” إذ لم تجد سياقا مناسبا للنمو الطبيعي، ومنهم الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري الذي توصَّل إلى أن الفكر السياسي الإسلامي لم يتجاوز “مرحلة الطفولة” إلى اليوم. ومنهم مالك بن نبي الذي لاحظ أن الحضارة الإسلامية في شقها السياسي “لم تنشأ عن مبادئ الإسلام، بل إن هذه المبادئ هي التي توافقت مع سلطة زمنية قاهرة. ويمكن إرجاع هذا الضمور إلى أسباب عدة، نذكر منها:
1.  جدلية الاكتساب والاستيعاب: فقد كان مستوى اكتساب المنضوين إلى الإسلام أيام الفتوح أوسع من مستوى استيعابهم في الأطر المنظِّمة لمجتمع المؤمنين: كان الإسلام أوسع من الإيمان.
2.  انهيار الخلافة الراشدة، وما نتج عنه من تحويل وجهة التدين وحصره في الشؤون الفردية بعدما انهار نظام الجماعة. فالواقع المنحرف له أثره السيئ على الفكر لا محالة.
3.  ضغط السياق الامبراطوري العالمي على الروح الإسلامية، فالقيم السياسية الإسلامية يصعب تطبيقها في عالم الامبراطوريات العسكرية الذي كان سائدا، فانهارت الخلافة الراشدة كما انهارت جمهوريات روما وأثينا من قبلُ تحت ضغط الوطأة الامبراطورية.
4.  التأثر الزائد بالمواريث السياسية غير الإسلامية، من ساسانية ويونانية ورومانية، على حساب الاستمداد من الوحي القرآني والسنة النبوية في مجال السياسة والحكمة العملية.
5.  فقدان العقل المسلم مرونته العملية بعد قرون من الانحطاط، فتحول العديد من المبادئ الإسلامية إلى أفكار نظرية مجردة: قد تُساقُ للتمدُّح بجلال الرسالة الإسلامية، لكنها لا تُتَّخذ قاعدة منهجية هادية للعمل.
6.  الجفاء الذي ساد بين أهل القرآن وأهل السلطان نتيجة سيادة الظلم السياسي، مما دفع الفقهاء إلى الإعراض عن هذه الجوانب من فقه التدين والزهد فيها.
بيد أن هذه النظرة المتشائمة تجاه الإصلاح السياسي لم تعد مستساغة في عصرنا الحاضر، حيث تعيش الأمة اليوم تحولا سياسيا، وسعيا للخروج من أزمتها السياسية المضنية، التي ألقت بظلالها القاتمة على واقع الشعوب الإسلامية ودورها في الحضارة الإنسانية، وعلى مستقبل الإسلام رسالة ربانية هادية يحتاجها البشر حاجتهم إلى الماء والهواء.
إن لكل حضارة أزمتها، وأزمة الحضارة الإسلامية أزمة دستورية في جوهرها. وقد أدرك الشهرستاني ذلك فعبر عنه بالقول: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان.[1] وهي أزمة بدأت ليلة السقيفة، وتغلَّب عليها الجيل الأول من المسلمين جزئيا حوالي ربع قرن من الزمان، لكنها انفجرت مدوِّيةً في نهاية خلافة عثمان وطيلة خلافة علي، واستحالت حربا أهلية طاحنة بين معسكر العراق بقيادة علي ومعسكر الشام بقيادة معاوية. وقد كانت معركة ليلة الهرير بـ”صفين” قمة التعبير التراجيدي عن تلك الحرب الأهلية، حيث كان “آخر أمرهم ليلة الهرير، وهو الصوت شبه النباح: فَنِيتْ نبالهم، واندقَّتْ رماحهم، وانقصفتْ سيوفهم، ومشى بعضهم إلى بعض، وتضاربوا بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة القوم، والحديد في الهام، فلما صارت السيوف كالمناجل تراموا بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثَوْا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه، وكُسِفتْ الشمس من الغبار، وسقطت الألوية والرايات، واقتتلوا من بعد صلاة الصبح إلى نصف الليل.[2]
وليست ثورات القرن الأول الهجري إلا امتدادا لحرب صفِّين، وتعبيرا عن الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية. ومن هذه الثورات ثورة الحسين بن علي الذي هبَّ “غضبا للدين وقياما بالحق” حسب تعبير القاضي أبي بكر بن العربي[3] وانتهت ثورته بفاجعة كربلاء، وثورة أهل المدينة ضد يزيد، وقد “قاموا لله” حسب تعبير الحافظ الذهبي[4] وانتهتْ ثورتهم باستباحة يزيد للمدينة المنورة. وثورة عبد الله بن الزبير في مكة، وثورة التوابين بقيادة الصحابي سليمان بن صُرد، وثورة الفقهاء بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث. ثم ما تلى ذلك من ثورات أشعلها الخوارج وغيرهم طيلة الدولة الأموية.
ورغم أن الإسلام حمل رسالة كونية وألحَّ على أخوَّة الإيمان منذ البداية، فإن السياق الاجتماعي والثقافي في الجزيرة العربيةحيث ظهر الإسلام أول ما ظهر- لو يكن سياقا توحيديا، لا بالمعنى الاعتقادي ولا بالمعنى الاجتماعي. فالعصبيات القبلية السائدة في الجزيرة العربية آنذاك كانت تتأبَّى على أي تعريف كوني للرابطة الإيمانية أو الإنسانية. ثم أضافت الفتوح الإسلامية السريعة تعقيدا جديدا إلى تلك المشكلات البنيوية. وقد لاحظ الفيلسوف محمد إقبال أن ما كسبه الإسلام خلال الفتوح الأولى من الامتداد كان خسارة له في العمق، فكتب يقول: “إنني أعتبر من الخسارة الكبرى أن يُوقِف تقدمُ الإسلام كدين فاتح نموَّ أجنة التنظيم الاجتماعي والديمقراطي والاقتصادي التي أجدها مبثوثة في صفحات القرآن وفي سنة النبي [صلى الله عليه وسلم].[5]
لقد تشبث العديد من المسلمين بأعرافهم الاجتماعية والسياسية ذات الجذور الضاربة في تاريخهم الثقافي، ولم يتخلوا قط عن ذاكرتهم الدينية والتاريخية. وخلال العقود التالية لوفاة النبي صلى الله عليه توسعت الجماعة المسلمة التي أسسها لتشمل عددا وافرا من الأمم والثقافات، دون أن تكون تلك الجماعة الأولى قادرة على استيعاب الوافدين الجدد في بنيتها السياسية، أو نسيجها الاجتماعي. ويصدق هذا الأمرأكثر ما يصدق- على العراق والشام، مهد أولى الامبراطوريات الإسلامية الكبرى. فكلا البلدين كان مهد حضارات عتيقة،  وما كان من الممكن تفادي الصراع بين النظام الجديد الذي قدمه الإسلام وبين التقاليد الاجتماعية والأعراف الثقافية العتيقة، ولا تجنب الصراع فيما بين تلك التقاليد والأعراف العتيقة ذاتها.
ثم انضاف إلى تلك التصدعات الكامنة انشطار مبكر في الجماعة المسلمة الأولى حول موضوع الشرعية السياسية. لقد بدأ الشقاق السياسي داخل تلك الجماعة الوليدة في اليوم ذاته الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الشقاق التي سيتحول في العقود والقرون اللاحقة إلى انشطار اعتقادي.
ومهما يكن من أمر القيم المعطَّلة مهما كان يكن جلالها لا يمكن أن تنافس القيم المفعَّلة مهما يعتريها من ضعف في بنيتها الأخلاقية أو في تماسكها المنطقي. والقيم السياسية الإسلامية قيم موؤودة ومغدورة منذ قرون متطاولة. ولا أمل للمسلمين في النهوض من كبوتهم التي طال أمدُها، ولا من الفوضى السياسية الضاربة بأطنابها على مجتمعاتهم اليوم، إلا بتفعيل هذه القيم السياسية الإسلامية الجليلة، ونفض غبار التاريخ عنها.. وذاك ما سنسعى إلى الإسهام فيه من خلال هذه المقالات، والله الموفق لكل خير لا شريك له

[1]  محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل (مؤسسة الحلبي)، 1/22.
[2]  عبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب (دمشق: دار ابن كثير، 1986)، 1/211.
[3]  أبو بكر بن العربي، العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (بيروت: دار الجيل، 1987)، ص 237.
[4]  شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1985)، 4/37.
[5]   نقل كلام إقبال مالك بن نبي: فكرة الإفريقية الآسيوية (دمشق: دار الفكر، 2001)، 228.

* أستاذ الأخلاق السياسية
مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق
كلية قطر للدراسات الاسلامية

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق

مرحبا بكم في الزيتونة

سجل إعجابك ليصلك الجديد

.

الصور للإشهار